يخبرني أحد المسؤولين الأمريكيين الذين انخرطوا في الجدل الأمريكي الرسمي الذي تلا سقوط نظام صدام، أن مسألة اختيار "ممثلين" للشعب العراقي كانت إحدى نقاط الاختلاف الرئيسية، وأنه كان ضمن مجموعة رفضت التركيز حصراً على التصنيف الهوياتي في انتقاء أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، وهو أول مؤسسة حكم عراقية تأسست بعد الاحتلال. يقر محدثي أن مجموعته خسرت النقاش ويقر بأن الطريقة التي تم تشكيل المجلس فيها أسست لما تلاها من إذكاء للنوازع الإثنية والطائفية. يقول إنه كان بالإمكان تجنب ذلك بدل الاستسلام للسردية البسيطة عن العراق التي جعلت منه بلد مكونات : شيعة وسنة وكرد.
تقوم هذه السردية عن "وطن المكونات" على أساس أن المنطق الكلاسيكي الذي حكم عملية بناء الامة في العراق استند على صناعة أيديولوجيا إدماجية لا تعترف بالتنوعات الفرعية وبالخصوصيات المحلية، وإن هذا المنطق انتهى إلى أقصى أشكال الهمينة الارغامية ذات الطابع الاستبدادي التي مثلّها نظام البعث، والتي عبّرت عن نفسها بصور عنفية غير مسبوقة. كان من الضروري، إذاً، العودة إلى "الخطيئة الأصلية"، إلى استبدال فكرة أن وظيفة الدولة مابعد-الكولونيالية في العراق هي صناعة أمة متجانسة، بتعريف جديد يقوم على تأكيد خصوصية واستقلالية الهويات الفرعية، وعلى خلق أطر ومؤسسات تتعايش فيها تلك الهويات، بدل من أن تتصارع عنفياً. لكن المشكلة كانت في تصور أن المجتمع يتكون من "هويات" حصراً، وأن تلك الهويات هي إثنية وطائفية وحسب، وبالتالي فإن الهويات الأخرى – التي تشكلها عوامل اجتماعية أو اقتصادية أو فكرية - ليست بذات القيمة. أدّى هذا الفهم المبتسر للخطيئة الأصلية، إلى تسريع إنتاج منطق إقصائي جديد عبر قسر المجتمع على بلورة نفسه في "ثلاث" جماعات، والتفتيت التدريجي لأي تصنيفات لا تخضع لمنطق الجماعات الثلاث، هذه المرة باسم حقوق "المكونات".
لم يكن اعتماد "سردية" المكونات قراراً أمريكياً حصراً، بل إنه انسجم مع طبيعة فكر وأهداف قوى المعارضة العراقية آنذاك التي كانت تطغى عليها الأحزاب الإسلامية الشيعية، والأحزاب الكردية . فالأولى كانت قد طورت بفعل بنائها الأيديولوجي وسنوات المنفى الطويلة وارتباطها – الفكري والسياسي- بالنظام الإيراني، وعياً "طائفياً يقوم على تسييس الهوية الشيعية، وهي رؤية خدمتها أيضاً في صناعة منطق تمثيلي يعوض عن غياب الدعم الاجتماعي الواسع لها، فهي تمثل "الطائفة" كمفهوم مجرد بما يسمح بتضخيم أوزانها السياسية بغض النظر عن حجم الدعم الفعلي الذي كانت تحظى به من قبل المواطنين. أما القوى الكردية فاعتقدت أن "فلسفة المكونات" ستحمي رغبتها في ضمان أعلى درجات الاستقلال لكردستان، وفي التأكد من عدم ظهور حكومة مركزية قوية في بغداد. وكما يُظهر الصدام الحالي بين أربيل وبغداد، تكمن المشكلة بنظر القوى الكردية في محاولة المالكي التمرد على منطق دولة المكونات لصالح تأسيس منطق سلطوي جديد تحت عنوان "بناء الدولة" و "حكم الأغلبية".
وقد أسهم كل من النظام الانتخابي الذي أعطى الأفضلية للقوى السياسية المنظمة وذات التمويل الكبير، والمناصب الحكومية التي وفّرت لتلك القوى ريوعاً كبيرة لتوسيع شبكات الأتباع وخلق قواعد اجتماعية موالية لها، في مأسسة "المكونات" وتأكيد تحولها الى تصنيفات سياسية رئيسية. تَمثَلَ التحدي الرئيسي الذي واجهته هذه العملية بوجود مقاومة "سنية" للاندراج في إطار النظام الجديد، وهي مقاومة لم تقبل بالوضع "الأقلوي" الذي يفرضه التصنيف الطائفي، وارتبطت بفراغ سياسي كبير نتج عن الهيمنة المطلقة للبعث، خصوصاً مع تكريس البنية الاجتماعية "السنية" لنظام صدام في عقديه الأخيرين بشكل سهّل صياغة السردية المبسطة عن النظام بوصفه "نظاماً سنياً" وحرم المجتمع السني من أي مظلة سياسية مهمة يستظل بها بعد سقوطه. جاءت آخر محاولة "سنية" لمقاومة وضع الأقلية الذي تفرضه "دولة المكونات" على السنة في العام 2010 حينما صوت غالبية الناخبين السنة لصالح ائتلاف علاوي الذي انضمت إليه معظم القوى الحزبية السنية. كانت تلك محاولة لتغيير معادلة الحكم في بغداد بما يمهد لصناعة منطق جديد وإعادة خلق شكل آخر لـ "الوطنية العراقية" باحياء نوع من "العروبة" غير المؤدلجة التي تخفي التصنيفات المذهبية، لكنها محاولة هزمتها غلبة منطق المكونات الذي دفع القوى الشيعية الى التكتل مجدداً لحفظ السلطة، وحوّل قائمة علاوي إلى كيان "غريب" تتنازعه نزعة "سنية" أرادت اللحاق بركب الحكومة وما يوفره الانضمام إليها من ريع وامتيازات، ونزعة ظلت تقاوم التصنيف الطائفي فانتهت إلى عزلة شديدة عبّر عنها النزول المنفرد لعلاوي في الانتخابات الأخيرة مستقلاً عن "القوى السنية" .
اقتربت النخب السنية من قبول فكرة دولة المكونات، صارت اليوم لا تخوض نزاعاً يهدف إلى إعادة تعريف المبدأ الذي يقوم عليه النظام، بل التركيز على تحصيل حقوق "المكون". لكن الإقرار بـ"سنية" السنة أنتج تيارين يزداد الانفصال بينهما، الأول تمثله النخبة السياسية التي ضعفت بسبب الضغط المزدوج الذي مارسته حكومة المالكي من جهة، والتيارات الراديكالية من جهة أخرى، وهي تتفاوض مع القوى الشيعية والكردية من أجل مكاسب الدخول الى الحكومة وفق النسبة السكانية السنية، والثاني تعبر عنه تيارات تقر بسنيتها لكنها تسعى لتحويل تلك السنية إلى استقواء بالعمق العربي او الإسلامي السني في مواجهة ما تعتبره استقواء شيعياً بإيران .
إننا ندخل هنا مرحلة جديدة من الصراع، فعملية التطييف التي حفزتها فكرة "دولة المكونات" والتي صحبها صراع إقليمي حاد حول تشكيل هوية العراق، والعنف المنفلت للجماعات الطائفية، قد قطعت شوطاً طويلا نحو إحداث انفصال سياسي واجتماعي ووجداني بين المكونات الثلاث، لكنها بدأت تقترب من نتيجتها الحتمية وهي وضع وجود العراق ككيان موحد في موضع التساؤل. حتى الآن يبدو أن هناك كابحين رئيسيين يمنعان التقسيم هما النفط والواقع الجيوسياسي. فاعتماد البلد شبه الكلي على ريوع النفط، و حوالي ثلثيها يأتي من صادرات الحقول الجنوبية، يؤثر في حسابات النخب السياسية الكردية والسنية، في حين يلعب الضغط الجيوسياسي، وتحديداً الإيراني على النخب الشيعية، دوراً في ردعها عن قبول التقسيم الذي قد يخلق كيانين جديدين مناوئين لإيران على حدودها ولهما امتداد ديموغرافي عبر تلك الحدود.
أطلقت الفلسفة الإدماجة الإرغامية لبناء الامة، التي هيمنت على فكر النخب الحاكمة في العراق حتى العام 2003، نزعات عنفية كبيرة ونوعاً من إرهاب الدولة الذي أدى الى تعميق الشروخ الاجتماعية بدلاً من ردمها، ودفع الكثير من القطاعات المجتمعية إلى الاحتماء بتضامنات ماقبل الدولة التي وظفتها نخب ساخطة لإنتاج سرديات طائفية فتكت بما تبقى من الفكرة "الوطنية". ويبدو أن فلسفة "دولة المكونات" التي تم تبنيها بعد 2003 استكملت هذه العملية حينما أطلقت ديناميات لإعادة التشكل الاجتماعي والثقافي تمأسس هويات ماقبل الدولة وتفقد الأخيرة مبررات وجودها.
عند مفترق الطرق هذا، يبدو أن السبيل الأمثل هو العودة مجدداً الى "الخطيئة الأصلية"، ولكن هذه المرة لإحياء منظور جديد يتجنب النكوص إلى التراث الادماجي السلطوي لبناء الأمة وفي نفس الوقت يتجاوز فكرة دولة المكونات لصالح فهم جديد يبنى على المواطنة، ويهدف إلى تفكيك نتائج المأسسة الطائفية عبر إطار لامركزي مناطقي يسمح للهويات المحلية أن تتطور في سياق طبيعي لا يصطدم بهوية متعالية يسعى المهيمنون على المركز إلى فرضها. إن أي إصلاح ينتشل العراق من محنته الراهنة يتطلب البدء باجراءات سياسية ودستورية لتفكيك البنى الطائفية عبر تغيير الأطر المؤسساتية والنظم الانتخابية والعلاقة بين المركز والاقاليم، بطريقة ترشدها محددات الجغرافيا الطبيعية والسكانية والاقتصادية كبديل عن التقسيمات الطائفية التي أغرقت في "تشييع" الشيعة و "تسنين" السنة، خدمة لرغبة مقاولين سياسيين، داخليين واقليميين، ونخباً مستنفرة وخائفة تبحث عن تحزبات تنعش إحساساً مصطنعاً بالانتماء، في ظل غياب الامة وتفكك الدولة واخفاق التحديث بمفهومه الكلاسيكي وبايديولوجياته العتيقة.